رأى بعض الكتاب أنّ الحضارة المصرية هى «حضارة السخرة الإنشائية من أهرامات ومعابد» وكتب آخر أنّ «ألوف البشر ظلوا يعملون عشرات السنين لينشئوا قبرا لإنسان واحد» بينما يرى الأصوليون الإسلاميون هدم كل الآثار بما فيها الأهرام. وأخيرا قرأنا عن اقتراح تأجيرها.
الأهرام والمعابد جزء أصيل من تراث مصر. وهذا التراث (مع تراث شعوب أخرى) شكل منظومة عالمية تحكى قصة قدرة الإنسان على الإبداع الذى يبدأ بالخيال وينتهى بالتصميم؛ فالهرم كمثال بدأ بالخيال الإنسانى نحو الصعود إلى السماء، فكلمة (مر) فى اللغة المصرية القديمة فى المرحلة الهيروغليفية تعنى (الهرم) أى الصعود. ولخص عالم المصريات برستد مهارة المصريين القدماء فى فن العمارة قائلا «رغم أنّ أهل بابل تقدّموا فى تشييد المبانى الضخمة فإنهم لم يبتكروا الأعمدة التى صنعتها مصر بمهارة وإتقان فى غضون الألف الرابعة قبل الميلاد. لذلك يرجع الفضل فى حل لغز التشييد البنائى إلى قدماء المصريين».
إنّ من ينظرون إلى الهرم على أنه «مقبرة لفرد واحد.. إلخ» يتجاهلون أنّ بناء الأهرام جمع بين علوم الهندسة والرياضيات والفلك. وعلى سبيل المثال فإنّ هرم خوفو (أول ملوك الأسرة الرابعة (2551 ــ 2528 ق.م) بلغ ارتفاعه 480 قدما. أما القاعدة فمربعة ويبلغ طول أحد أضلاعها 750 قدما ولا تزيد نسبة الخطأ فى الطول والمسطح والفراغ على واحد على عشرة آلاف، ويُستدل على دقة بناء الهرم بتلاصق صخوره الضخمة التى يقترب وزن بعضها بضعة أطنان. ولا تزيد مساحتها عن واحد على عشرة آلاف من البوصة. كما أنّ هذه الدقة فى السطوح والحافات تشمل مساحات تـُقدر بالأفدنة، مما لا يمكن مقارنته بدقة المهندسين العصريين الذين لا تتعدى دقتهم قى الصناعة بضعة أقدام أو ياردات.
وردا على ادعاء السُخرة ذكر كثيرون من بينهم كمثال العالم (بترى) أنّ العمل كان يجرى أثناء موسم الفيضان، أى بين آخر يوليو وآخر أكتوبر، أى الوقت الذى لا تـُزرع فيه الأرض، ويكون معظم الأهالى بلا عمل «وأنّ الأهرام شيّدها بناءون مهرة وكانوا يسكنون فى مبانٍ غرب هرم خفرع»، وهى المبانى التى اكتشفها (بترى) مع فريق عمله. ورغم أنّ الهرم المُدرج أبسط كثيرا من هرم خوفو فإنّ عالم المصريات (أ.أ.س. إدواردز) يرى أنه «لو ألقينا نظرة عامة على الهرم المُدرج، لوجدنا أننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنه من أحسن الأعمال المعمارية التى خلفها قدماء المصريين» وكتب أيضا «حاول كثيرون ممن كتبوا عن الهرم الأكبر أنْ يعقدوا مقارنات بين حجمه وحجم بعض المبانى الأخرى المشهورة، فحسبوا مثلا أنّ مبانى البرلمان البريطانى وكنيسة القديس بولس فى لندن يُمكن وضعها داخل مساحة قاعدته وتبقى منها مساحة كبيرة خالية. وفى حساب آخر عن مساحة الهرم وجدوا أنها تسع كاتدرائيات فلورنسا وميلان والقديس بطرس. كما حسبوا أيضا أنهم إذا قطعوا كمية أحجار الهرم إلى مكعبات بحجم قدم مربع ووُضعتْ هذه المُكعبات فى صف واحد فإنها تمتد إلى مسافة طولها ثلثا محيط الكرة الأرضية عند خط الاستواء. وقرّر عالم الرياضيات (يونج) أنه أمّن (= وافق) على هذا الحساب» كما أنّ المصريين القدماء «بجانب إتقانهم الكامل لفن رفع الأحجار الثقيلة، فقد أتقنوا أيضا فن قطع ونحت الأحجار الصلبة».
وقبل البناء كان يتم إعداد دراسة عن أفضل المواقع المناسبة. وكان أول عمل يقوم به المُشرفون على البناء هو إزالة الطبقة السميكة من الرمال والحصى فوق سطح الصحراء، لكى يُقام البناء على أساس ثابت من الصخر. ثم تبدأ بعد ذلك عملية تسوية الصخر وتهذيبه. وكان آخر ما يفعلونه من العمليات التمهيدية فى إعداد الموقع عمل دراسة دقيقة لكى يتأكدوا من أنّ قاعدة الهرم تأخذ بقدر الإمكان شكل المربع الكامل. كما أنّ ضآلة الخطأ فى جوانب الهرم التى يزيد طولها على 9000 بوصة هى الحقيقة التى تدعو إلى الإعجاب، خصوصا عندما نتذكر أنّ وجود النتوء الصخرى فى الوسط يجعل من الصعب قياس أقطار المربع قياسا صحيحا» أما عن استخدام علم الفلك «فليس من المُستطاع ضبط جوانب الهرم نحو الجهات الأربع الرئيسية إلاّ بمساعدة جُرم أو أكثر من الأجرام السماوية، فى وقت كانت البوصلة فيه ــ بكل تأكيد ــ غير معروفة. على أنّ قدماء المصريين نجحوا فى هذا نجاحا كادوا يصلون فيه إلى حد الكمال».
وكتبتْ د. مرجرت مرى «لقد أصبتْ بابل وحدائقها كومة من الأنقاض يعمها الخراب، كأنما هى مدينة دمّرتها القنابل. أما تمثال زيوس فقد تحطم منذ زمن طويل. ومعبد ديّنا تهدم تماما ولم يبق منه إلاّ بعض آثار قليلة. وتمثال رودس العظيم لا أثر له إلاّ فى الخيال بعد أنْ زال واختفى تماما. ومنارة الإسكندرية ذهبتْ دون أنْ تترك أثرا تقريبا. فمن العجائب السبع تتبقى أهرام مصر وحدها، تكاد تكون سليمة. وهى لا تزال ترتفع بهاماتها شامخة تـُسيطر على المنظر وتتحدى يد الزمان المُخرّبة بل ويد الإنسان الأشد تخريبا. وهى بالغة العظمة والضخامة. كما أنها أقدم المبانى العظيمة فى العالم كله».
وذكر أ. صبحى شفيق أنّ أول كتاب يتسلمه التلميذ بالمدارس الابتدائية فى أوروبا، على صفحته الأولى صورة لهرم زوسر المُدرج وتحته كتب من صمّم الصفحة «أول حضارة عرفتْ استخدام الأحجار ذات الزوايا القائمة. وأول صرح حضارى فى تاريخ الإنسانية».
بعد هذه الأمثلة من كتابات علماء المصريات ومن اهتمام أوروبا بآثارنا وتراثنا، أتمنى أنْ يأتى يوم على مصر تهتم فيه مناهج تعليم وبرامج الإعلام بمجمل الحضارة المصرية، ومن بينها الإعجاز المعمارى. وأعتقد أنه لو تحقق هذا الحلم، سيكون لدينا أجيال مختلفة، يؤمنون بأهمية التراث ويـُحافظون عليه ويـُدافعون عنه. وبالتالى ستقل ظاهرة سرقة الآثار إلى أنْ تختفى تدريجيا. وسيحترمنا المُتحضرون عندما يُدركون أننا نحترم ذواتنا القومية. وسيتضاعف الدخل القومى من السياحة، لو فعلنا ما تفعله الدول التى ليس لديها آثار ودخلها من السياحة أكثر من عشرة أضعاف دخلنا. والأهم أنه لن يُفكر أحد فى الهدم أو البيع أو التأجير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق